هواري بومدين ....هالة القداسة
لم نشهد عصر هذا الرجل , و لكننا سمعنا و ربما كما يقولون ليس الخبر كالمعاينة , سمعنا الكثير و الكثير , و لفرط ما وصلنا عنه صار هذا الرجل أسطورة من زمن الأبطال , اول رئيس دولة عربية يتكلم العربية في مجلس الأمم المتحدة , الرجل صاحب نظرة الصقر , الرجل الذي كانت الدول الكبرى تحسب له ألف حساب , كل هذا سمعناه عن " الرئيس هوراي بومدين" , الغريب أن شبابا من جيلي و الذين لم يعاصروا الرجل بل سمعوا كما سمعنا و تخيلوا كما تخيلنا , يعتقدون فيه أنه السوبر مان المفقود , و ذهبوا في تمجيده مذاهبا شتى .
لم تكن تلك الحكايات تروقني و لم يكن التمجيد المبالغ فيه يتوافق و قناعاتي فأنا أراه من الرجال العاديين جدا , وهذا بالذات ما كان يجر على شخصنا الويلات و هذا ما أتوقعه بعد هذه الكلمات , و لكننا اتفقنا أن ما نكتبه محض رؤية خاصة من الواجب أن نحترمها و إن خالفناها , الأكيد أن ليس بيني و بين الرجل ثأر شخصي فلا علاقة لي به إلا كونه ترأس دولة في وقت ما أنا احد مواطنيها الآن , ما بيني و بينه هو الجزائر .
و هنا يجب أن أسد الثغرة على الذين من عادتهم أن يسفهوا وجهات النظر في من قدسوهم , مذكرا إياهم أن رجالا أكرم و ارفع في الدنيا و الآخرة قيل فيهم ما لا يعاد , إذن لا حرج من أن نقول في مثل "هواري" قولا هو لنا وجهة نظر نعتقدها و لا يهمنا من خالفنا فله رأيه , و ليبتعد عنا من لا يجدون في أنفسهم سعة , الذين يقدسون الرجال و يشكلون منهم أوثانا تعبد , فلا يرون منهم إلا الحسن و الصواب .
رغم أني لن أتكلم عن سياسات الرجل تلك السياسات التي عانينا منها في وقت لاحق , لأننا و نحن ننادي بعدم الانحياز كنا في حضن الاتحاد السوفيتي , و في الوقت الذي كنا نرفع فيه شعار القومية العربية كنا نخوض صراعا مع الجارة المغربية , و الكثير من التناقضات التي لا تحصى , على العموم نحن لا نحاول سلب الرجل كل حسناته فهذا ليس غرضنا , و لكن يجب أن نعترف أن حكمه كان حكما دكتاتوريا لا يقبل الاختلاف في الرأي و ربما - و بين قوسين كبيرين - هذا الحكم هو الأليق بشعوبنا العريضة العظيمة لأنها شعوب حسها "بالعصا " اكبر بكثير من حسها "بالواجب" و ها هي و قد تركت بلا " عصا" فعاثت في الأرض فسادا.
الشاهد أن الذكرى التي بقيت من الرئيس هواري بومدين هي أشبه بالبكائية و الوقوف على الأطلال , فقد قذفوا في روعنا أنه المخلص الذي رحل قبل أن يتم رسالته و بعده لا يمكن لهذا البلد أن "ينصلح " حاله , كنت اسمعهم و هم يتأوهون ألما , و يتنهدون حسرة على الرجل الذي من الممكن أن يوصلنا إلى أقاصي المجد و يبلغ بنا السؤدد في هذا العالم , و رغم صغر سني لم أكن اقتنع بهذا الحديث الذي كنت أراه حديث خرافة و محض تبريرات للفشل الذي نحن فيه , و بتقدم السن زدت قناعة أن الرجل كان رجلا عاديا و لكن دائرة الإعلام صنعت منه تمثال الرخام اللامع الذي يغشى البصر فلا يرى إلا حسنه , كانوا يصرفوننا عن الحاضر بحكايات الماضي الجميل , دوائر التخدير و التلاعب بالعقول جعلت من الرجل لعبة الخشخشة التي تلهي الصبيان و لكنها ألهت به شعبا كاملا إلا من رحم ربك.
الدوائر نفسها التي بعثت في عقول العامة ممن يحبون الركون إلى الأصنام و حديث الخرافة أن من الصعب أن تجد بديلا لفلان و علان و بالتالي تبقى الحلول مؤجلة حتى يظهر المخلص الذي لن يظهر أبدا , ثم إذا أرادوا أن يقدموا شخصا ما بهرجوه و لفقوا له الحكايات التي تصنع منه الرمز , إن الشعوب الحرة و التي تحترم نفسها هي الشعوب التي لا تؤمن "بالفرد" الذي لا بديل له , ولا تعلق على شخص واحد آمالها و طموحاتها , اللهم أن يكون نبيا مرسلا يوحى إليه و قد أنقضى عصر النبوات . كان الحديث عنه يشعرني أن الجزائر بلد عقيم لا ينجب الرجال الذين بمقدورهم أن يتقدموا بهذا الشعب إلى مصاف الدول الكبرى , و لكني إذا أوغلت النظر بعيدا في التاريخ و جدتها الأرض الخصبة الولود , التي لا يمكن أن يتعلق مصيرها برجل واحد أو حزب واحد أو جماعة واحدة لأن الدولة الحق هي تلك التي تعتمد على المؤسسات و لأن المجتمعات الحق هي تلك التي تتكاتف فيها السواعد و من قبلها العقول و القلوب .
الفكرة التي أود أن أصل إليها مفادها أن المبالغة في الرجال و الغلو في إعطائهم ما لا يستحقون هو في حقيقة الأمر ظلم لهم و لمن حولهم , و ما داموا بشرا غير معصومين فهم يجري عليهم ما يجري على البشر , و تلك الأغاني التي ما زالت تتردد من أفواه الآباء بالتمجيد و التعظيم يجب أن يرمى بها في المزبلة , و أن يكف الشباب عن التغريد بها كأنها ستعيد لهم مجدا ضاع و الحقيقة أننا لم نكن في مجد بل نفس الحال إن لم نقل أسوء و لكن المتلاعبون بالعقول لهم الفرشاة السحرية التي تحيل الأسود الغامق إلى لون مبهرج نتبعه كالقطعان الشاردة .
على كل حال فأنا لي قناعة يمكن أن تكون متطرفة بعض الشيء , و لا يوافقني الكثير فيها , وهي أن " هواري بومدين " رجل يصلح أن يكون رجل قبيلة لما فيه من الأنفة و الشهامة و لكنه لا يصلح أن يكون رجل دولة فهي أكبر من إمكانياته و لعل هذا ينطبق على الكثير من حكام وطننا العربي الذين حكموا بالدكتاتوريات أو شبه الدكتاتوريات لأن هؤلاء كانوا يحكمون الناس و هم يعتقدون أنهم يحكمون قبيلة أو " عرش" و لم يفهموا أن لحكم الدولة شأن أعلى و أجل مما هم عليه .
ذلك هو تصوري عن الرجل و عن تلك الهالة المقدسة التي صنعت من حوله .
اضافة تعليق